دمعة وابتسامة، في وجوه أتعبها الانتظار الطويل والأمل المنشود، غصة في قلب يتلوع شوقاً، قصص يومية وحكاية تكتب بالآلام والدموع المنهمرة سراً من وراء العيون المشتعلة. "كيفك يا حبيبي" عبارة تتردد كل زيارة من وراء شبك الزيارة، رحلة عذاب بين معتقلات العدو تختلف الأسماء لكن المكان واحد. تختلف الأجواء لكن جو الحزن وحده يبقى جاثماً في الأعماق. تمر سنوات صعاب، الأجساد تهزل وتذوي، والعيون تفقد بعضا من اشراقتها، وقبضة السجان تزداد شراسة وقسوة على الأجساد التي أنهكها التعب والإعياء والانتظار الطويل. أربعة وثلاثون عاماً من رحلة الاعتقال خلف الأسلاك في السجن الأكبر، وخلف القضبان في السجن الأصغر، والحكاية لم تنتهي، ورحلة الاعتقال تتجدد كل عام أكثر بشاعة وأشد قسوة، وسبعة عشر عاماً أخرى من مسيرة الاعتقال.
تواصل أمهات الاسرى والمعتقلين العرب السوريين في سجون الاحتلال التحضير والإعداد الى الزيارة، وتحضير الأغراض والميرامية والنعناع والمواد القليلة المسموح بإدخالها الى السجن... سبعة عشر عاما من رحلة الانتظار أمام بوابة السجن وتسجيل الأسماء والتقاء الأهالي من ذوي الأسرى من القدس وباقة الغربية والناصرة وحيفا ويافا. هذه أم لم تعد تستطيع السير يساعدها حفيدها على النهوض، وتلك أم تنهض متثاقلة حين تسمع صوت السجان ينادي على اسم ولدها خلف القضبان، وتلك تحمل سلة منع السجان إدخالها الى ابنها فبدأت تصيح : "لكم يومكم يا ظلام غدا يتحرر ابني رغم أنفكم يا مجرمين...."
رحلة عذاب تتكرر ولا من مجيب لدعوات وابتهالات وتوسلات أم ترغب في احتضان ابنها خلف القضبان قبل مماتها... القلب مكسور والأمل المنشود ما زال خلف الأبواب الموصدة...
تلك حكاية من الجولان، حكاية الموت البطيء مع السجن والسجان نقدم نماذج حية نعايشها مع ذوي رفاقنا الأحرار خلف القضبان. في زيارة أهالي المعتقلين لأبنائهم في السجون الصهيونية طقوس عدة، عرفها ومارسها كل من قدر له أن يعيش تجربة المعتقل من خارجة في وقت يقبع أحد أبنائه داخله، هذه الطقوس تبدأ من حجز دور للزيارة لدى الأهل، إلى شراء الأغراض المسموح إدخالها، الى إعداد أخبار الأهل والاخوة والأخوات في الذاكرة، الى ترتيب ساعة الانطلاق، ثم النهوض صباحا والتوجه الى باص السفر حيث يتم جمع أهالي المعتقلين والانتظار للتأكد من أن الجميع قد حضر ثم التوجه الى السجن في رحلة هي صعبة على أم أو أب أتعبته سنوات السفر الروتيني عبر المسافات البعيدة. فاليوم يقبعون هناك في صحراء النقب القاحلة وبالأمس في عسقلان وغداً في شطه أو أي مكان... لم يعد مهماً أين المكان!
في الانتظار أمام بوابة السجن ينزل الأهالي من الباص الى الساحة المكتظة بذوي المعتقلين أولئك عائلات أسرى القدس، وهنا تنتظر تحت الشمس الحارقة عائلات اسرى "عرب الثمانية والاربعين"، وهناك عائلات أنهكها التعب والانتظار. تجلس عائلات أسرى من أي مكان ليس مهما، المهم أن المكان جمعنا... دمعة في العين وحسرة في القلب، وشوكة الأبناء في عيون الأعداء، وتبتدأ حفلة السلام وتبادل التحيات والأوجاع والحكايات، ويفتح السجان نافذة صغيرة لتسجيل الأسماء وتبتدئ عملية تدقيق الهويات والأسماء. وبعد الانتظار ينادي على الأسماء وتترك الأغراض للتفتيش لدى الحراس، ثم تتم الزيارة ويلتقى الأهل مع الأبناء من خلف القضبان بحضور حارس واحد وراء كل سجين، وأربعة حراس وراء الأهالي. وخلال فترة الخمس والأربعين دقيقة (الفترة المسموح فيها الزيارة) يتداخل العالمان: عالم السجن الخارجي وعالم السجن الداخلي. هذه أم تحاول ملامسة بعضا من أنامل ابنها، وهذا أب اغرورقت عيناه بالدموع وتراجع الى الوراء، يفسح المجال لغيرة في إلقاء التحية من وراء القضبان، وهذا سجين يتفحص القادمين للزيارة يحرك رأسه ويرفع يده رمزا للعناق والتحية...
"كيفك يا أمي... وكيف خواتي واخوتي؟" عبارات تقليدية تتكرر كل زيارة ، حتى اعتادها السجان واعتادتها القضبان. يحين ساعة الفراق والوداع، وكأنه هذه المرة الوداع الأخير للسجن والقضبان والسجان، والأوجاع المحشوة بالأحزان والأثقال. "دير بالك على حيلك يا حبيبي، أمانة عليك تغطى، وتغذى منيح، ابعثلي رسالة يا حبيبي،" آخر عبارة تنطقها آلام وهي تخرج مغصوبة من غرفة الزيارة، وتبقى العيون تلتفت الى الوراء اللمحة الأخيرة قبل الافتراق، وتنهار الدموع بعد الخروج الى أمام بوابة السجن، لتنتفش في الجسد والذاكرة قصة جديدة من حكايات أهالي الاسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال. وتتكرر ذات المشاهد والصور والذكريات. "منذ ثلاثين عاما ونحن هنا كل زيارة" تقول أم عاشت ذات التجربة مع الزوج أو الأخ واليوم مع الابن، والمكان واحد والقضبان واحدة، وحدها الوجوه تغيرت وتواريخ الزمان.
يخرج أهالي المعتقلين من بوابة السجن الأخيرة وتبقى الأعين تراقب تترصد أي حركة الى الوراء ربما يلوح في الأفق أحد الأبناء داخل أسوار المعتقل، ويتجمع أهالي المعتقلين بخطى متثاقلة الى خارج الأسوار حيث ينتظر سائق الباص مكانه، فيبدأ في الاستعداد لتشغيل الباص والعودة من جديد في رحلة العودة التي تستمر ساعات وساعات وساعات من السفر، ويطول الطريق وتبعد المسافات بين المكان الذي بداخله الأبناء الأحباء والمكان الذي بداخلة يعيش الأمل المسروق من نشرات الأخبار والإذاعات والمسافات، فربما يكون التحرير قد اقترب وتنهي رحلة الآلام...
هذه الطقوس والعادات عشتها بالأمس القريب من داخل القضبان خلال 12 عاماً، حيث الإرادة والإيمان والقناعة بعدالة قضيتك هي كل ما تملك بوجه آلة القمع والضرب والتعذيب الفاشية، هي كل ما تملك في معركتك كإنسان مناضل بين أعدائك الذين يتلذذون لصور اللقاء بين اهلك وأحبائك من وراء الشباك الحديدية، ويتفنون أكثر في إنهاء وقطع اللقاء دون رحمة أو أي شعور واحساس بالآدمية. وأعيشها اليوم من جديد من خارج الأسوار حيث السجن الأكبر لا يختلف كثيراً عن السجن الأصغر إلا بالوجوه والأشكال والأشياء.
تغيرت وجوه بعض الأمهات والأخوات والأباء ، وتغيرت أسماء السجناء، لكن بقى الجولان أكبر وأعظم، وبقى الوطن السوري أعمق في الوجدان والشعور والواجب المقدس، وانكسرت شوكة الأعداء بحكم الاستمرارية في النضال والمقاومة ورفض الاحتلال، وفشل الرهان في الاستسلام والتسليم بالأمرالواقع ، وتجددت عملية الاستنهاض للتخلص من المحتل الآثم، "فلا مناهج التدريز والتهويد نجحت، ولا محاولات الدمج في المجتمع الصهيوني العنصري أثمرت، ولا حلم العودة والتحرير الى حضن الوطن آلام سورية انتهى لحظة واحدة من وجدان أطفال الجولان، فالحلم أقوى والوطن أقوى"، تقول إحدى الأمهات الصابرات التي لم تتخلف زيارة واحدة عن أولادها في المعتقل منذ 17 عاما على التوالي، رغم تقدمها في العمر فهي تعتقد إنها ابنة 69 عاما ، ورغم آلامها وأوجاعها تقول: "سأعيش حتى يتحرر وبعدها لا يهمني أن أموت. مات أبوه قبل ثلاث سنوات ولم يراه؛ سأعوضه عن أبوه وعن كل من يحب، سأبقى معه أينما يضعونه فالسجن واحد رغم كل عذابات السفر". وأم صابرة أخرى، عمرها إن لم تخنها ذاكرتها 75 عاماً، ولدت في مدينة السويداء في جبل العرب الأشم، لم تشاهد منذ الاحتلال أهلها على الإطلاق ومات والدها وماتت والدتها ومات أخويها الاثنين ولم تكن حاضرة في أحزان وأوجاع العائلة، لا تعرف سوى عدد أفراد عائلتها، رفض المحتل كل الرسائل والطلبات التي تقدمت بها عبر الصليب الأحمر الدولي للمشاركة في دفن أحبائها. رغم كل شئ في ماضيها الأليم والموجع لم تدمع عيناه إلا حين تحدثت عن أبنائها الاثنين في المعتقل: "ليس لديهم أحد سواي. أتعبتنا هذه الرحلة يا ابني، لكن ما فعلوه في المقاومة فخر لي ولأبناء وطني كلهم أنا والدتهم وافتخر بهم وليتني أستطيع أن افعل ما فعلوه. هم ساروا على درب آبائهم وأجدادهم المجاهدين الثوار. أنا واثقة ان دولتهم وحكومتهم لن تتركهم سيخرجونهم من السجن مرفوعي الرأس. لن تنساهم المقاومة في لبنان ، فالشيخ الجليل حسن نصر الله سيحررهم من المعتقل رغم انف الصهاينة!"
لا تستطيع أن تحبس دموعك وأنت تستمع الى ما تفيض به قلوب الأمهات والأهالي من تجربة الاعتقال الطويلة التي نجح الفاشيين الصهاينة من خلالها معاقبة العائلة بكاملها بخلق وقائع جديدة ومنهكة ومتعبة وباهضة التكاليف المادية والعاطفية والمعنوية والإنسانية لأطول فترة زمنية ممكنة، ولكنهم لم يستطيعوا ان يثنوا أبناء كل تلك العائلات وعلى مدار الـ 34 عاماً من عمر الاحتلال ويكسروا إصرارهم وقناعتهم الوطنية والقومية والإنسانية. وهذا الطابور البشري من الكبار والصغار، من الطلبة والشباب والصبايا الذين أصبحوا في عمر رحلة الاعتقال، يزاحم ليحجز لنفسه دوراً لزيارة المعتقلين، خير دليل على أن الفاشست الصهاينة فشلوا في رهانهم بالعزل والاعتقال والسجن الطويل، والتسبب في زيادة الأعباء والتكاليف والهموم والأحزان، من أن يدخلوا اليأس والقنوط والندم والتسليم بالأمر الواقع في قلوب المعتقلين أو ذويهم. وشعبنا أنجب العشرات والعشرات والعشرات من الأحرار الذين هزموا السجن والسجان والقيد والقضبان، ومرغوا أنف الغزاة والجلادين الصهاينة تحت نعال الأطفال الجولانيين، وتجربة جنوبنا البطل عنوان عربي أصيل يترسخ ويتجسد يومياً في الًاجندة اليومية الفلسطينية والسورية داخل الأراضي العربية المحتلة.
وتبقى أخيرا معادلة الصمود داخل معتقلات العدو، فإما أن يهزمك الجلاد وعامل الزمن من التآكل والانهيار، وإما أن تهزم الجلاد بصمودك، بإرادتك، وثقتك بحتمية الانتصار والتحرير ولقاء الأهل والأمهات الصابرات، وتتابع مسيرتك النضالية الى جانب كل الأحرار حتى كنس الاحتلال من كل أرضنا الطاهرة الحبلى بالثورة.